فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو مكتوب في الإنجيل.
{فَنَسُواْ حَظًّا} وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ أي لم يعملوا بما أُمِروا به، وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببًا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} هو كقولك: أخذت من زيد ثوبه ودرهمه؛ قاله الأخفش.
ورتبة {الذين} أن تكون بعد {أَخَذْنَا} وقبل الميثاق؛ فيكون التقدير: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم؛ لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا.
وتقديره عند الكوفيين: ومن الذين قالوا إنا نصارى مَن أخذنا ميثاقهم؛ فالهاء والميم تعودان على {ومَنَ} المحذوفة، وعلى القول الأوّل تعودان على {الذين}.
ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألْيَنَهَا لبستُ من الثياب؛ لئلا يتقدّم مضمر على ظاهر.
وفي قولهم: {إِنَّا نصارى} ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسمّوا بها؛ روي معناه عن الحسن.
قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} أي هيجنا.
وقيل: ألصقنا بهم؛ مأخوذ من الغِراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصّمغ وشبهه.
يقال: غَرِيَ بالشيء يَغْرَى غَرًا «بفتح الغين» مقصورًا وغِرَاء «بكسر الغين» ممدودًا إذا أولع به كأنه التصق به.
وحكى الرّماني: الإغراء تسليط بعضهم على بعض.
وقيل: الإغراء التحريش، وأصله اللصوق؛ يقال: غَرِيتُ بالرَّجل غَرًا مقصور وممدود مفتوح الأول إذا لصِقت به.
وقال كُثَيّر:
إذا قيل مهلًا قالت العين بالبكا ** غِرَاء ومدّتها حوافِلُ نُهّل

وَأَغْرَيْتُ زيدًا بكذا حتى غِريَ به؛ ومنه الغِراء الذي يُغرى به للصوقه؛ فالإغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التّسليط عليه.
وأَغْرَيْتُ الكلب أي أولعتُه بالصيد.
{بَيْنَهُمُ} ظرف للعداوة.
{والبغضاء} البغض.
أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما.
عن السُّدي وقَتَادة: بعضهم لبعض عدوّ.
وقيل: أشار إلى افتراق النصارى خاصة؛ قاله الربيع بن أنس، لأنهم أقرب مذكور؛ وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقِبةِ والنُّسطورية والمَلْكانية؛ أي كفّر بعضهم بعضًا.
قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار.
وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله} تهديد لهم؛ أي سيلقون جزاء نقض الميثاق. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتِهم، و{مِن} متعلقة بـ {أخذنا}، إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به، ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا؟ فكأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضًا أخذنا ميثاقهم، وقيل: هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع خبرًا لمبتدأ محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه، أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم، أو مَنْ أخذنا ميثاقهم، وضميرُ {ميثاقَهم} راجعٌ إلى الموصوف المقدر، وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول، وقيل: راجع إلى بني إسرائيل، أي أخذنا من هؤلاء ميثاق أولئك، أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل، وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير، وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذانًا بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق، وإنما هو تقوّلٌ محْضٌ منهم، وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء، أو إظهارًا لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم، فإن ادعاءهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه {فَنَسُواْ} عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم {حَظًّا} وافرًا {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفًا، وقيل: هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يُؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم، واتبعوا أهواءهم فاختلفوا وتفرقوا نِسطوريةً ويعقوبيةً وملكانية أنصارًا للشيطان، {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصَقنا، من غرِيَ بالشيء إذا لزمه ولصِق به، وأغراه غيرُه، ومنه الغِراء، وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ} إما ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالًا من مفعوله، أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم، ولا سبيل إلى جعله ظرفًا لهما، لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء، أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤُهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الثلاثة، فضمير {بينهم} لهم خاصة، وقيل: لهم ولليهود، أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعّده: سأخبرك بما فَعَلت، أي يجازيهم بما عملوه على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذُكِّروا به، {وسوف} لتأكيد الوعيد، والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد، والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك، وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعِها للعذاب، فيكونُ ترتيبُ العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود، و{مِنْ} متعلقة بأخذنا، وتقديم الجار للاهتمام، ولأن ذكر حال إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن حال الأخرى ماذا؟ كأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضًا أخذنا ميثاقهم والضمير المجرور راجع إلى الموصول، أو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة، وهو نظير قولك: أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه.
وجوز أن يكون الجار متعلقًا بمحذوف وقع خبرًا لمبتدأ محذوف أيضًا، وجملة {أَخَذْنَا} صفة أي ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم وقيل: المبتدأ المحذوف {مِنْ} الموصولة، أو الموصوفة، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب إليه سوى الكوفيين.
وإنما قال سبحانه: {قَالُواْ إِنَّا نصارى} ولم يقل جل وعلا ومن النصارى كما هو الظاهر بدون إطناب للإيماء كما قال بعضهم: إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم ولسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان، فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها بمعزل، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه تسميتهم نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور، ولهذا يقال لهم أيضًا: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد في سنة أربع وثلثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لهم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة، أو «نصورية وبها سميت النصارى ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع نصران كندامى.
وندمان أو جمع نصري كمهري.
ومهاري والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضًا دينهم، ويقال لهم: نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم»
.
{فَنَسُواْ} على إثر أخذ الميثاق {حَظًّا} نصيبًا وافرًا {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل: هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره: غريت به غراءًا بالمد، وأغريت زيدًا بكذا حتى غرى به، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: {بَيْنَهُمْ} ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالًا من مفعوله أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم.
قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفًا لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفًا، وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية واليعقوبية والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير {بَيْنَهُمْ} إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج.
والطبري، وعن الحسن.
وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى.
{وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب؛ فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخبارًا حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مرارًا، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه و{سَوْفَ} لتأكيد الوعيد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ذكر بعد ميثاق اليهود ميثاق النصارى.
وجاءت الجملة على سبه اشتغال العامل عن المعمول بضميره حيث قُدّم متعلِّق {أخَذْنا ميثاقهم} وفيه اسْم ظاهر، وجيء بضميره مع العامل للنكتة الداعية للاشتغال من تقرير المتعلِّق وتثبيته في الذهن إذ يتعلّق الحكم باسمه الظاهر وبضميره، فالتقدير: وأخذنا، من الذين قالوا: إنّا نصارى، ميثاقهم، وليس تقديم المجرور بالحرف لقصد الحصر.
وقيل: ضمير {ميثاقهم} عائد إلى اليهود، والإضافة على معنى التشبيه، أي من النصارى أخذنا ميثاقَ اليهود، أي مثلَه، فهو تشبيه بليغ حذفت الأداة فانتصب المشبّه به.
وهذا بعيد، لأنّ ميثاق اليهود لم يفصّل في الآية السابقة حتّى يشبّه به ميثاق النّصارى.
وعبّر عن النصارى بـ {الذين قالوا إنّا نصارى} هُنا وفي قوله الآتي: {ولتجدنّ أقبربهم مودّة للّذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى} [المائدة: 82] تسجيلًا عليهم بأنّ اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله، وهو أن يكون أتباعه أنصارًا لِما يأمر به الله، {كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاريَ إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله} [الصف: 14].